الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن ارتجاع الجزيرة الخضراء: قد تقدم لنا ذكر تغلب الطاغية ابن ألهنشة على الجزيرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وأنه نازل بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وهلك بالطاعون وهو محاصر له عندما استفحل أمره واشتدت شوكته وكفى الله شأنه وولى أمر الجلالقة بعده ابنه بطرة وعدا على سائر إخوته وفر أخوه القمط ابن حظية أبيه المسماة بلغتهم البريق بهمزة إلى قمط برشلونة فأجاره وأنزله خير نزل ولحق به من الزعماء المريكس ابن خالته وغيره من اقماطهم وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه فأبى من إخفار جواره وحدثت بينهما بذلك الفتنة الطويلة افتتح بطرة فيها كثيرا من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه وحاصر بلنسية قاعدة شرق الأندلس مرارا أرجف عليها بعساكره وملأ البحر إليها بأساطيله إلى أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيها ملكته فانتقضوا عليه ودعوا القمط أخاه في زحف إلى قرطبة وثار على بطرة أهل اشبيلية وتيقن صاغية النصارى إليه ففر عن ممالكه ولحق بملك الإفرنج وراء جليقية وفي الجوف عنها وهو صاحب انكلطرة واسمه ألفنس غالس ووفد عليه صريخا سنة سبع وستين وسبعمائة فجمع قومه وخرج في صريخه إلى أن استولى على ممالكه ورجع ملك الإفرنج فعاد النصارى إلى شانهم مع بطرة وغلب القمط على سائر الممالك فتحيز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد المسلمين ونادى صريخا بابن الأحمر فانتهز فيها الفرصة ودخل بعساكر المسلمين فاثخن في أرض النصرانية وخرب معاقلهم ومدنهم مثل أبدة وجيان وغيرهما من أمهات أمصارهم ثم رجع إلى غرناطة ولم تزل الفتنة قائمة بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلب عليه القمط وقتله وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة وتشوف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك بما كان فيه من انتقاض أبي الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد فراسل صاحب الأندلس أن يزحف إليه بعساكره على أن عليه عطاءهم وإمداده بالمال والأساطيل على أن يكون مثوبة جهاده خالصة له فأجاب إلى ذلك وبعث إليه أحمال المال وأوعز إلى أساطيله بسبتة فعمرت وأقلعت من مرسى الجزيرة لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل واستعد الآلات للحصار فنازلها أياما قلائل ثم أيقن النصارى بالهلك لبعدهم عن الصريخ ويأسهم عن مدد ملوكهم وألقوا باليد وسألوا النزول على حكم السلم فأجابهم السلطان إليه ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها شعائر الإسلام ومراسمه ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة وولى ابن الأحمر عليها من قبله ولم تزل لنظره إلى أن تمخض النظر عن هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها فهدمت أعوام ثمانين وسبعمائة وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس والبقاء لله وحده..الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها وعلى سائر بلادها وفرار أبي حمو عنها: كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة وتافيلالت وملوية وصا وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف مختصين بطاعة بنى مرين وفي وطنهم وكانوا مغلوبين للدولة تحت قهر من سلطانها ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمو وكان الأحلاف بالمغرب عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد ولما استقالت الدولة من عثارها تحيزوا إلى بنى عبد الواد وأقطعوهم في أوطانهم واستقروا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم العامل بدرعة إلى أبي حمو ووزارته له وفسد ما بين سلطان المغرب وأبي حمو من جزاء ذلك ونهض أبو حمو سنة ست وستين وسبعمائة إلى المغرب وعاث في نواحي دبدو ثغر المغرب فنشأت لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن زكراز فكمان داعية لعداء صاحب المغرب على الأيام ولما استبد السلطان عبد العزيز وهلك صاحبهم عبد الله بن مسلم وترددت الرسل بين أبي حمو وبين السلطان عبد العزيز كان فما اشترط عليه التجافي عن قبول عرب المعقل عرب وطنه لما فيه من الاستكثار بهم عليه وأبى عليهم أبو حمو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهم بالنهوض أليه سنة سبعين وسبعمائة وأقصر لما أخذ بحجزته من خلاف عامر وصاحب الثغر محمد بن زكراز أثناء ذلك يحرضه كل الحركة إلى أبي حمو ورغبه في ملك تلمسان ولما قضى السلطان حركة مراكش وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس ولقي بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم صريخا على أبي حمو لما نال منهم وتقبض على أخيهم محمد ورؤساء بني مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب ووفد عليه رسل أهل الجزائر ببيعتهم يستحثون السلطان لاستنقاذهم من لهواته وأمر السلطان بذلك وليه ونزمار ومحمد بن زكراز صاحب دبدو فزعموا له بالغناء في ذلك واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشدين إلى مراكش للاحتشاد وتوافى الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأفاض العطاء وأزاح العلل ولما قضى منسك الأضحى اعترض العساكر ورحل إلى تلمسان واحتل بتازى وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمو فجمع من إليه من زنانة الشرق وبني عامر من عرب المعقل وزغبة وتوافت جموعه بساحة تلمسان واضطرب هنالك معسكره واعترض جنوده واعتزم على الزحف للقاء بني مرين ثقة بمكان المعقل وتحيز من كان معه من عرب المعقل الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز بمداخلة وليهم ونزمار واجتمعوا إليه وسرح معهم صنائعه فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق الصحراء وبلغ خبر تحيزهم وإقبالهم إلى أبي حمو فأجفل هو وجنوده وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على منداس وخرجوا إلى بلاد الديالم ثم لحقوا بوطن رياح فنزلوا على أولاد سباع بن علي بن يحيى.وارتحل السلطان عبد العزيز من تازى وتذم بين يديه وزيره أبا بكر بن غازي فدخل تلمسان وملكها ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر ابن غازي على العساكر من بني مرين والجنود والعرب من المعقل وسويد وسرحه في اتباعه وجعل شوراه إلى وليه ونزمار وفوض إليه في ذلك فارتحلوا من تلمسان آخر المحرم وكنت وافدا على أبي حمو فلما أجفل عن تلمسان ودعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى الأندلس ووشى بعض المفسدين إلى السلطان بأني احتملت مالا للأندلس فبعث جريدة من معسكره للقبض علي ووافوني بوادي الزيتون قبل مدخلي إلى تلمسان فأحضرني وسألني وتبين كذب الواشي فأطلقي وخلع علي وحملي ولما ارتحل الوزير في اتباع أبي حمو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فهم بدعوته وطاعته وصرفهم عن طاعة أبي حمو وصريخه فنهضت لذلك ولحقت بالوزير بالبطحاء وارتحلت معه إلى وادي ورك من بلاد العطاف فودعته وذهبت لوجهي وجمعت رياح على طاعة السلطان ونكبت بهم عن طاعة أبي حمو فنكبوا عنها وخرج أبو زيان من محل نزوله بحصين فلحق بأولاد محمد ابن على بن سباع من الزواودة وارتحل أبو حمو من المسيلة فزل بالدوسن وتلوم بها وأوفدت من الزواودة على الوزير ونزمار فكانوا أدلاءهم في النهوض إليه ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من زناتة وحلل بني عامر والوزير في التعبية وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح مخيفة به فأجهضوه عن ماله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بدمائه إلى مصاب وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة وتلوم الوزر بالدوسن أياما ووافاه بذلك لحاق بني مرين وانقلب إلى المغرب ومر على قصور بنى عامر بالصحراء فاستباحها وشردهم عنها إلى قاصية القفر ومفازة العطش ولحق بتلمسان في ربيع الثاني ووفدت أنا بالزواودة على السلطان ورئيسهم أبو دينار بن على بن أحمد فبر السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أخيه وخلع عليه وحمله وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم وبعث السلطان عماله على الأمصار وعقد لصنائعه على النواحي وجهز الكتائب مع وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل كان ربي في حجر الدولة ونشأ في جو نعمتها وسخط حاله لديهم فنزع إلى وطن سلفه من مغراوة ونزل بجبل بني بو سعيد فأجاروه وبايعوه على الموت دونه وسرح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم فنزل عليهم وقاتلهم وامتنعوا في رأس شاهقهم فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف وأحجرهم بمعتصمهم وتوافت لديه الأمداد من تلمسان فجهزها كتائب وبوأهم المقاعد للحصار وأقام هنالك واستولى السلطان كل سائر الوطن من الأمصار والأعمال وعقد عليها واستوثق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه والله تعالى أعلم.
|